فصل: (فَرْعٌ): (تَحْريمُ تَعْشِيرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى



.(فَرْعٌ): [هل تسقطُ الْجِزْيَةُ عن أَهْلِ الذِّمَّةِ]:

(مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ مَعَهُمْ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ لَا يَصِحُّ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَمْ يَنْقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ طُولِبُوا بِذَلِكَ، فَأَخْرَجُوا كِتَابًا ذَكَرُوا أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، كَتَبَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ فِيهِ شَهَادَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمُعَاوِيَةَ، فَوَجَدَ تَارِيخَهُ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ، وَقَبْلَ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ.

.(باب أحكام الذمة):

أَيْ: مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوَّلَهُمْ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ عَقْدُهَا لَهُمْ يَجِبُ (عَلَى الْإِمَامِ حِفْظُهُمْ)، أَيْ: أَهْلِ الذِّمَّةِ، (وَمَنْعُ مَنْ يُؤْذِيهِمْ)، لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ عَلَى ذَلِكَ، (وَفَكُّ أَسْرَاهُمْ)، لِأَنَّهُمْ جَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَتَأَيَّدَ عَقْدُهُمْ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَعُونَتِنَا (بَعْدَ فَكِّ أَسْرَانَا) فَيَبْدَأُ بِفِدَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُمْ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ (وَ) يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ (دَفْعُ مَنْ قَصَدَهُمْ بِأَذَى إنْ لَمْ يَكُونُوا بِدَارِ حَرْبٍ)، بَلْ كَانُوا بِدَارِنَا، وَلَوْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِبَلَدٍ، قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: وَالْمُنْفَرِدُونَ بِبَلَدٍ مُتَّصِلٍ بِبَلَدِنَا يَجِبُ ذَبُّ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْهُمْ عَلَى الْأَشْبَهِ، وَلَوْ شَرَطْنَا أَنْ لَا نَذُبَّ عَنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفُرُوعِ فَإِنْ كَانُوا بِدَارِ حَرْبٍ لَمْ يَلْزَمْنَا الذَّبُّ عَنْهُمْ. (وَحَرُمَ قَتْلُهُمْ وَأَخْذُ مَالِهِمْ) بَعْدَ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ. (وَعَلَيْهِ أَخْذُهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَعِرْضٍ، وَ) فِي (إقَامَةِ حَدٍّ فِيمَا يُحَرِّمُونَهُ)، أَيْ: يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ (كَزِنًا)، فَمَنْ قَتَلَ أَوْ قَطَعَ طَرَفًا، أَوْ تَعَدَّى عَلَى مَالٍ، أَوْ قَذَفَ أَوْ سَبَّ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أُخِذَ بِذَلِكَ، لِمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْن عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْيَهُودِ زَنَيَا فَرَجَمَهُمَا» (وَسَرِقَةٍ)، فَمَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشَرْطِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ فِي دِينِهِمْ، وَقَدْ الْتَزَمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ، فَثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ كَالْمُسْلِمِ، وَ(لَا) يُحَدُّونَ فِي (مَا يُحِلُّونَهُ)، أَيْ: يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ (كَخَمْرٍ) وَأَكْلِ خِنْزِيرٍ (وَنِكَاحِ) ذَاتِ (مَحْرَمٍ)، لِأَنَّهُمْ يُقِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا وَإِثْمًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِهِ كَمَا يَأْتِي، لِتَأَذِّينَا بِهِ، (وَعَقْدٍ فَاسِدٍ) يَرَوْنَ صِحَّتَهُ، وَلَوْ رَضُوا بِحُكْمِنَا، فَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ مَا لَمْ يَرْتَفِعُوا إلَيْنَا، (فَلَوْ تَزَوَّجَ يَهُودِيٌّ وَنَحْوُهُ) كَمَجُوسِيٍّ (بِنْتَ أَخِيهِ مَثَلًا لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ)، وَإِنْ كَانَ هَذَا النِّكَاحُ بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، (قَالَهُ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ أَيْ: لِأَنَّهُ وَطْءُ شُبْهَةٍ لِاعْتِقَادِهِمْ حِلَّهُ. (وَإِنْ تَحَاكَمُوا)، أَيْ: أَهْلُ الذِّمَّةِ (إلَيْنَا)، فَلَنَا الْحُكْمُ بِشَرْعِنَا وَالتَّرْكُ (أَوْ) تَحَاكَمَ إلَيْنَا (مُسْتَأْمَنَانِ بِاتِّفَاقِهِمَا)، فَلَنَا الْحُكْمُ بِشَرْعِنَا وَالتَّرْكُ، فَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ، لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا حُكْمَنَا بِخِلَافِ الذِّمِّيِّينَ، (أَوْ اسْتَعْدَى ذِمِّيٌّ عَلَى) ذِمِّيٍّ (آخَرَ فَلَنَا الْحُكْمُ بِشَرْعِنَا وَالتَّرْكُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} مَعَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}. (وَيَجِبُ) الْحُكْمُ (بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ) تَحَاكَمَا إلَيْنَا لِمَا فِيهِ مِنْ إنْصَافِ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ رَدِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ، (وَيَلْزَمُهُمْ حُكْمُنَا) إنْ حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، لِالْتِزَامِهِمْ بِالْعَقْدِ ذَلِكَ شَرِيعَتُنَا. (وَيَحْرُمُ إحْضَارُ يَهُودِيٍّ فِي سَبْتِهِ وَتَحْرِيمُهُ)، أَيْ: السَّبْتِ (بَاقٍ) بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، (فَيُسْتَثْنَى شَرْعًا مِنْ عَمَلٍ فِي إجَارَةٍ)، لِحَدِيثِ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ «وَأَنْتُمْ يَهُودُ عَلَيْكُمْ خَاصَّةً أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ». (وَيَتَّجِهُ: وَلِمُسْتَأْجِرِ) إنْسَانًا زَمَنًا مَعْلُومًا كَشَهْرٍ مَثَلًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَ(لَمْ يَعْلَمْ) أَنَّهُ يَهُودِيٌّ، أَوْ عَلِمَ وَجَهِلَ تَحْرِيمَ سَبْتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ (الْفَسْخُ) إزَالَةً لِضَرَرِهِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ فِي كُلِّ سَبْتٍ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ. (وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ) إذَا لَمْ يَرْتَفِعُوا إلَيْهِ (أَنْ يَتَتَبَّعَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِمْ، وَلَا يَدْعُوهُمْ إلَى حُكْمِنَا)، أَيْ: شَرِيعَتِنَا (نَصًّا)، لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِإِقْرَارِنَا لَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُهُمْ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةِ، وَلَا الْحَجُّ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَاقَبُونَ عَلَى سَائِرِ الْفُرُوعِ كَالتَّوْحِيدِ. (وَلَا يُفْسَخُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (بَيْعٌ فَاسِدٌ) كَخَمْرٍ وَنَحْوِهِ (تَقَابَضَاهُ) مِنْ الطَّرَفَيْنِ (قَبْلَ تَرَافُعٍ إلَيْنَا، وَلَوْ أَسْلَمُوا) بَعْدَ التَّقَابُضِ، أَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ، لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ بِالتَّقَابُضِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً وَتَنْفِيرًا عَنْ الْإِسْلَامِ بِتَقْدِيرِ إرَادَتِهِ، وَكَذَا سَائِرُ عُقُودِهِمْ، وَمُقَاسَمَاتِهِمْ إذَا تَقَابَضُوهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضُوا مِنْ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، فَسَخَهُ حَاكِمُنَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ فَنُقِضَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ حَاكِمُهُمْ أَوْ لَا، لِعَدَمِ لُزُومِهِمْ حُكْمَهُ، لِأَنَّهُ لَغْوٌ لِفَقْدِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. (وَيُمْنَعُونَ مِنْ شِرَاءِ مُصْحَفٍ، وَكُتُبِ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَتَفْسِيرٍ)، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ابْتِذَالَ ذَلِكَ بِأَيْدِيهِمْ، (وَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ، وَكَرِهَ بَيْعُهُمْ ثِيَابًا مَكْتُوبًا عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ) تَعَالَى أَوْ كَلَامُهُ حِذْرًا مِنْ أَنْ يُمْتَهَنَ، و(لَا) يُكْرَهُ لَنَا بَيْعُهُمْ (كُتُبَ أَدَبٍ وَلُغَةٍ وَصَرْفٍ) لَا قُرْآنَ فِيهِ، وَلَا أَحَادِيثَ دُونَ كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ، فَيُمْنَعُونَ مِنْ شِرَائِهَا كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَأَوْلَى. (وَيَلْزَمُهُمْ تَمْيِيزٌ عَنَّا بِقُبُورِهِمْ) تَمْيِيزًا ظَاهِرًا كَالْحَيَاةِ وَأَوْلَى، وَيَجِبُ مُبَاعَدَةُ مَقَابِرِهِمْ عَنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، لِئَلَّا تَصِيرَ الْمَقْبَرَتَانِ وَاحِدَةً، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْنُهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. (وَكَرِهَ جُلُوسٌ بِهَا)، أَيْ: مَقَابِرِهِمْ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَصَابَهُمْ عَذَابٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
(وَ) يَلْزَمُهُمْ التَّمْيِيزُ عَنَّا (بِحِلَاهُمْ بِحَذْفٍ)، أَيْ: حَلْقِ، (مُقَدَّمِ شُعُورِ رُءُوسِهِمْ) بِأَنْ يَجُزُّوا نَوَاصِيَهُمْ وَهِيَ: مِقْدَارُ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَيْنَ الْعَذَارِ وَالنَّزْعَتَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِالسَّالِفِ.
وَ(لَا) يَجْعَلُونَهُ (كَعَادَةِ الْأَشْرَافِ) بِأَنْ يَتَّخِذُوا شَرَابِينَ، (وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا شُعُورَهُمْ) بِأَنْ يَقْسِمُوا شُعُورَهُمْ نِصْفَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَجْعَلُوهُ ذُؤَابَتَيْنِ، لِأَنَّ الْفَرْقَ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ تَكُونُ شُعُورُ رُءُوسِهِمْ جَمَّةً، لِاشْتِرَاطِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِيمَا كَتَبُوهُ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، وَكَتَبَ بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ أَنْ امْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوا، رَوَاهُ الْخَلَّالُ.
(وَ) يَلْزَمُهُمْ التَّمْيِيزُ عَنَّا (بِكُنَاهُمْ وَأَلْقَابِهِمْ، فَيُمْنَعُونَ) مِنْ التَّكَنِّي بِكُنَى الْمُسْلِمِينَ (نَحْوُ: أَبِي الْقَاسِمِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعِزِّ الدِّينِ وَنَحْوِهِ) مِمَّا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي الْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِمْ فِي الْخَبَرِ: وَلَا نَكَتْنِي بِكُنَاهُمْ، (وَلَا يُمْنَعُونَ مُطْلَقَ الْكُنَى)، قَالَهُ أَحْمَدُ لِطَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، وَاحْتَجَّ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ عُمَرَ. وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ: «يَا أَبَا الْحَارِثِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، وَعُمَرُ قَالَ لِنَصْرَانِيٍّ: يَا أَبَا حَسَّانَ، (وَ) يَلْزَمُهُمْ التَّمْيِيزُ عَنَّا إذَا رَكِبُوا (بِرُكُوبِهِمْ عَرْضًا، رِجْلَاهُ لِجَانِبٍ وَظَهْرُهُ لِ) جَانِبٍ (آخَرَ بِإِكَافٍ، وَهُوَ: الْبَرْذَعَةُ عَلَى غَيْرِ خَيْلٍ)، لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ: أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِجَزِّ نَوَاصِيَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَشُدُّوا الْمَنَاطِقَ، وَأَنْ يَرْكَبُوا الْأَكُفَّ بِالْعَرْضِ.
(وَ) يَلْزَمُهُمْ التَّمْيِيزُ عَنَّا (بِلِبَاسٍ عَسَلِيٍّ لِيَهُودٍ، وَلِبَاسِ ثَوْبٍ أَدْكَنَ، وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ): لَوْنٌ يَضْرِبُ إلَى السَّوَادِ (لِلنَّصَارَى)، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.
(وَ) مِمَّا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ (شَدُّ خَرْقٍ) صُفْرٍ أَوْ زُرْقٍ (بِقَلَانِسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ)، بِحَيْثُ تَكُونُ الْخِرْقَةُ يُخَالِفُ لَوْنُهَا لَوْنَ الْقَلَانِسِ وَالْعَمَائِمِ، لِيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ (وَ) مِمَّا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ شَدُّ (زُنَّارٍ، وَهُوَ خَيْطٌ غَلِيظٌ فَوْقَ ثِيَابِ نَصْرَانِيٍّ، وَتَحْتَ ثِيَابِ نَصْرَانِيَّةٍ) وَيَكْفِي الْغِيَارُ أَوْ الزُّنَّارُ، (وَيُغَايِرُ نِسَاءُ كُلٍّ) مِنْ يَهُودَ وَنَصَارَى (بَيْنَ لَوْنَيْ خُفٍّ) لِيَمْتَازُوا عَنَّا، وَلَا يُمْنَعُونَ فَاخِرَ الثِّيَابِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَالطَّيْلَسَانِ، لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ.
(وَ) يَلْزَمُهُمْ (لِدُخُولِ حَمَّامِنَا جُلْجُلٌ)، وَهُوَ: الْجَرَسُ الصَّغِيرُ، (أَوْ خَاتَمٌ رَصَاصٌ وَنَحْوُهُ) كَحَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ، أَوْ طَوْقٍ مِنْ ذَلِكَ لَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، لِتَحْرِيمِهِمَا عَلَى الذُّكُورِ (بِرِقَابِهِمْ)، لِيَتَمَيَّزُوا عَنَّا فِي الْحَمَّامِ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ صَلِيبٍ مَكَانَهُ، لِمَنْعِهِمْ مِنْ إظْهَارِهِ (وَيُكْتَفَى بِتَمْيِيزِهِمْ بِالْعَمَائِمِ كَعِمَامَةٍ زَرْقَاءَ وَنَحْوِهَا) كَصَفْرَاءَ، لِحُصُولِ التَّمَيُّزِ الظَّاهِرِ بِهَا، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَقَبْلَهَا كَالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ مَأْلُوفَةً لَهُمْ. (وَلَوْ أَرَادُوا الْعُدُولَ عَنْ) لُبْسِ (ذَلِكَ مُنِعُوا) لِمُخَالَفَتِهِمْ زِيَّهُمْ الْمُعْتَادَ لَهُمْ. (وَقَدْ مَرَّ) فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ (يُكْرَهُ تَشَبُّهٌ بِهِمْ) بِمَا يُشْبِهُ شَدَّ الزُّنَّارِ فِي صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَذْهَبِ (خِلَافًا لَهُ)، أَيْ: لِصَاحِبِ الْإِقْنَاعِ (هُنَا)، كَذَا قَالَ، وَعِبَارَتُهُ: وَإِنْ تَزَيَّا بِهَا، أَيْ: بِالْعِمَامَةِ الزَّرْقَاءِ مُسْلِمٌ، أَوْ عَلَّقَ صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حُرِّمَ، وَلَمْ يَكْفُرْ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْإِقْنَاعِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ بِلَا نِزَاعٍ يُؤَيِّدُهُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ التَّشَبُّهُ بِهِمْ نَهْيٌ عَنْهُ إجْمَاعًا، لِحَدِيثِ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» رَوَاه أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنَّهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ التَّشَبُّهِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ كُفْرَ الْمُتَشَبَّهِ بِهِمْ، وَقَالَ: وَلَمَّا كَانَتْ الْعِمَامَةُ الصَّفْرَاءُ وَالزَّرْقَاءُ مِنْ شِعَارِهِمْ، حَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِ لُبْسُهَا انْتَهَى وَقَوْلُهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ: يُكْرَهُ تَشَبُّهٌ بِهِمْ إذَا لَمْ يَقْوَ كَشَدِّ الزُّنَّارِ، وَلُبْسِ الْفَاخَّتِي، وَالْعَسَلِيِّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَشَبُّهٍ مَحْضٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُونَهُ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِهِمْ كَالْعِمَامَةِ الزَّرْقَاءِ وَالْقَلْوَصَةِ، وَتَعْلِيقِ الصَّلِيبِ فِي الصَّدْرِ فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مَخْصُوصًا بِمَا هُنَا، وَالْفَرْقُ مَا فِي هَذِهِ مِنْ شِدَّةِ الْمُشَابَهَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا قَوِيَتْ الْمُشَابَهَةُ.

.(فَصْلٌ): [تحريمُ القيامِ لأَهْلِ الذِّمَّةِ]:

(وَيَحْرُمُ قِيَامٌ لَهُمْ)، أَيْ: أَهْلِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، (وَ) يَحْرُمُ قِيَامٌ (لِمُبْتَدِعٍ يَجِبُ هَجْرُهُ) كَرَافِضِي (وَ) يَحْرُمُ (تَصْدِيرُهُمْ بِمَجَالِسَ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَ) يَحْرُمُ (بُدَاءَتُهُمْ بِسَلَامٍ)، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(وَ) يَحْرُمُ بُدَاءَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ: (بِكَيْفَ أَصْبَحْت أَوْ): كَيْفَ (أَمْسَيْت، أَوْ): كَيْفَ (أَنْتَ أَوْ): كَيْفَ (حَالُك)، نَصَّ عَلَيْهِ، (خِلَافًا لِلشَّيْخِ) تَقِيِّ الدِّينِ، حَيْثُ جَوَّزَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَهْلًا وَسَهْلًا، وَ: كَيْفَ أَصْبَحْت وَنَحْوُهُ فِي مَوْضِعٍ، وَجَزَمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ (وَيُنْوَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، (مُسْلِمٌ مَعَهُمْ)، أَيْ: الذِّمِّيِّينَ (بِسَلَامٍ) لِأَهْلِيَّتِهِ لَهُ (وَيُضْطَرُّونَ لِأَضْيَقِ طُرُقٍ) لِلْخَبَرِ، (وَلَا يُوَقَّرُونَ كَمُسْلِمٍ)، لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ. (وَيَجُوزُ) قَوْلُ مُسْلِمٍ لِذِمِّيٍّ: (أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك، مَعَ أَنَّ) الْإِمَامَ (أَحْمَدَ كَرِهَ الدُّعَاءَ) لِكُلِّ أَحَدٍ (بِالْبَقَاءِ) وَنَحْوُهُ، قَالَ: لِأَنَّهُ شَيْءٌ فَرَغَ مِنْهُ، إشَارَةً إلَى حَدِيثِ: «فَرَغَ رَبُّك مِنْ ثَلَاثٍ: رِزْقِك، وَأَجَلِك، وَشَقِيٍّ أَنْتَ أَوْ سَعِيدٍ» (وَ) يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: (أَكْثَرَ) اللَّهُ (مَالَك وَوَلَدَك قَاصِدًا بِذَلِكَ كَثْرَةَ الْجِزْيَةِ)، لِيَنْتَفِعَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ.
(وَ) يَجُوزُ: (أَكْرَمَك اللَّهُ، وَهَدَاك، يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ)، قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ لِأَحْمَدَ: يَقُولُ لَهُ: أَكْرَمَك اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ. (وَحَرُمَ تَهْنِئَتُهُمْ وَتَعْزِيَتُهُمْ وَعِيَادَتُهُمْ) إذَا مَرِضُوا، قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، صَحَّحَهُ فِي التَّصْحِيحِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ (وَ) حَرُمَ (شَهَادَةُ أَعْيَادِهِمْ)، أَيْ: الْكُفَّارِ، وَ(لَا) يَحْرُمُ (بَيْعُنَا لَهُمْ)، أَيْ: لِأَهْلِ الذَّمَّةِ (فِيهَا)، أَيْ: أَعْيَادِهِمْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ، وَفِي الْإِقْنَاعِ: يَحْرُمُ، وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ خِلَافًا لَهُ. (وَعَنْهُ)، أَيْ: الْإِمَامِ (تَجُوزُ عِيَادَةٌ لِرَجَاءِ إسْلَامٍ)، فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَغَيْرُهُ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ يَهُودِيًّا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاه الْبُخَارِيُّ. وَلِأَنَّهُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. (وَمَنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ) لَا يَعْلَمُهُ ذِمِّيًّا، (ثُمَّ عَلِمَهُ) ذِمِّيًّا، (سُنَّ قَوْلُهُ) لَهُ (جَهْرًا: رُدَّ عَلَيَّ سَلَامِي)، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ: إنَّهُ كَافِرٌ، فَقَالَ: رُدَّ عَلَيَّ مَا سَلَّمْت عَلَيْك، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَكْثَرُ لِلْجِزْيَةِ. (وَإِنْ سَلَّمَ ذِمِّيٌّ) عَلَى مُسْلِمٍ، (لَزِمَ) الْمُسْلِمَ. (رَدُّهُ، فَيُقَالُ) فِي رَدِّهِ: (وَعَلَيْكُمْ) أَوْ: عَلَيْكُمْ، بِلَا وَاوٍ، وَبِهَا أَوْلَى، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «نُهِينَا، أَوْ أُمِرْنَا أَنْ لَا نَزِيدَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى: وَعَلَيْكُمْ» (وَيَكْتُبُ) الْمُسْلِمُ (فِي كِتَابٍ لِكَافِرٍ: سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى)، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى جَامِعٌ. (وَإِنْ شَمَّتَهُ)، أَيْ: الْمُسْلِمَ الْعَاطِسَ (كَافِرٌ أَجَابَهُ) الْمُسْلِمُ بِهَدَاكَ اللَّهُ، لِأَنَّ طَلَبَ الْهِدَايَةِ لَهُمْ جَائِزٌ. (وَتُكْرَهُ مُصَافَحَتُهُ وَتَشْمِيتُهُ)، قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَابْنِ عَقِيلٍ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى: إنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: «يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» رَوَاه أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
(وَ) يُكْرَهُ (تَعَرُّضٌ لِمَا يُوجِبُ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا)، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَةَ.
(وَ) يُكْرَهُ (أَنْ يُسْتَشَارَ) كَافِرٌ (وَيُؤْخَذَ بِرَأْيِهِ)، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ (أَوْ)، أَيْ: وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ (يَسْتَطِبَّ ذِمِّيًّا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَوَاءً لَمْ يَقِفْ عَلَى مُفْرَدَاتِهِ) الْمُبَاحَةِ، وَكَذَا مَا وَضَعَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ أَوْ عَمِلَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِشَيْءٍ مِنْ السُّمُومَاتِ أَوْ النَّجَاسَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
(وَيُمْنَعُونَ)، أَيْ: أَهْلُ الذِّمَّةِ (مِنْ حَمْلِ سِلَاحٍ وَ) مِنْ تَعَلُّمِ (ثِقَافٍ)، وَهُوَ: الرَّمْيُ بِالْبُنْدُقِ، (وَ) مِنْ (رَمْيٍ) بِنَحْوِ نُبْلٍ، (وَ) مِنْ (لَعِبٍ بِرُمْحٍ وَدَبُّوسٍ) وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُعِينُ عَلَى الْحَرْبِ. وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ الْقُرْآنَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَلَّمُوا الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَ) يُمْنَعُونَ مِنْ (تَعْلِيَةِ بِنَاءٍ فَقَطْ) لَا مِنْ مُسَاوَاتِهِ، لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى عُلُوِّ الْكُفْرِ، وَلَا إلَى اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِنَا (عَلَى) بُنْيَانِ (جَارٍ مُسْلِم، وَلَوْ رَضِيَ) الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ أَوْ قَصُرَ بُنْيَانُ الْمُسْلِمِ جِدًّا، فَلَيْسَ لَهُمْ التَّعْلِيَةُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، زَادَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ: يَدُومُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ، وَرِضَاهُ يُسْقِطُ حَقَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ.
تَنْبِيهٌ:
يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى بِنَاءِ جَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاصِقْهُ بِحَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَارِ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرَفُّعًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمُنِعُوا مِنْهُ، كَالتَّصْدِيرِ فِي الْمَجَالِسِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْبِنَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَدَلَّ أَنَّ قِسْمَةَ الْوَقْفِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ لَا تَلْزَمُ، لِسُقُوطِ حَقِّ مَنْ يُحْدِثُ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِاجْتِنَابِهِ مُحَرَّمٌ. قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ (وَيَجِبُ نَقْضُهُ) وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، أَيْ: مَا عَلَا مِنْ بِنَائِهِمْ عَلَى بِنَاءِ جَارِهِمْ الْمُسْلِمِ، إزَالَةً لِعُدْوَانِهِمْ وَ(لَا) يُنْقَضُ مَا عَلَا مِنْ بِنَاءِ ذِمِّيٍّ (إنْ بَاعَهُ) الذِّمِّيُّ (لِمُسْلِمٍ)، لِأَنَّهُ لَا غَضَاضَةَ بِهِ (وَيَضْمَنُ) ذِمِّيٌّ عَلَا بِنَاؤُهُ عَلَى بِنَاءِ جَارِهِ الْمُسْلِمِ (مَا تَلِفَ بِهِ)، أَيْ: الْبِنَاءِ الْمُعَلَّى (قِبَلَهُ)، أَيْ: النَّقْضُ لِتَعَدِّيهِ بِالتَّعْلِيَةِ، لِعَدَمِ إذْنِ الشَّرْعِ فِيهَا.
وَ(لَا) يُهْدَمُ بِنَاءٌ عَالٍ (إنْ مَلَكُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ عَالِيًا)، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَعْلِيَةٌ، (وَلَا يُعَادُ) عَالِيًا (لَوْ انْهَدَمَ) مَا مَلَكُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ عَالِيًا، لِأَنَّهُ بَعْدَ انْهِدَامِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ.
(وَ) إنْ تَشَعَّثَ الْعَالِي الَّذِي لَا يَجِبُ هَدْمُهُ وَلَمْ يَنْهَدِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ (يَرُمَّ شُعْثَهُ) لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لَهُ لَا إنْشَاءُ تَعْلِيَةٍ. (وَلَا) يُنْقَضُ بِنَاؤُهُمْ (إنْ بَنَى) مُسْلِمٌ (دَارًا عِنْدَهُمْ) فِي مَحَلَّتِهِمْ (دُونَ بِنَائِهِمْ)، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعْلُوا بِنَاءَهُمْ عَلَى بِنَائِهِ (وَمَعَ شَكٍّ فِي سَبْقٍ) بِأَنْ وُجِدَتْ دَارُ ذِمِّيٍّ عَالِيَةُ عَلَى دَارِ مُسْلِمٍ بِجِوَارِهَا، وَشَكَّ فِي السَّابِقَةِ مِنْهُمَا، فَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَا تُقَرُّ دَارُ الذِّمِّيِّ عَالِيَةً، بَلْ (يَهْدِمُ) مَا عَلَا مِنْ بِنَائِهَا، لِأَنَّ التَّعْلِيَةَ مُفْسِدَةٌ، وَقَدْ شَكَكْنَا فِي شَرْطِ جَوَازِهَا.
(وَ) يُمْنَعُونَ (مِنْ إحْدَاثِ كَنَائِسَ وَبِيَعٍ) فِي دَارِ الْإِسْلَامِ (وَ) مِنْ (مُجْتَمَعٍ لِصَلَاةٍ وَصَوْمَعَةٍ لِرَاهِبٍ)، قَالَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ لِقَوْلِ ابْن عُمَرَ: «أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً وَلَا أَنْ يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا، وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا، وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ. وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ، أَوْ مَا فُتِحَ عَنْوَةً كَمِصْرِ وَالشَّامِ، وَلَا يَصِحُّ صُلْحُهُمْ عَلَى إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا بِنَاءُ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ (فَإِنْ فَعَلُوا)، أَيْ: أَحْدَثُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، (وَجَبَ هَدْمُهُ) إزَالَةً لِعُدْوَانِهِمْ. (لَا) يَجِبُ (هَدْمُ مَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْهَا)، أَيْ: مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا (وَقْتَ فَتْحِ) الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ بِهَا، (فَإِنْ شَرَطُوا)، أَيْ: الْكُفَّارُ (الْإِحْدَاثَ) لِبِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ وَنَحْوِهَا (فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّهُ)، أَيْ: الْبَلَدَ الْمَفْتُوحَ صُلْحًا (لَنَا)، وَنُقِرُّهُ مَعَهُمْ بِالْخَرَاجِ، (جَازَ)، لِأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ. (وَيُمْنَعُونَ مِنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا)، أَيْ: الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَنَحْوِهَا (أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا) مِنْهَا، (وَلَوْ) كَانَ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا أَوْ هُدِمَ ظُلْمًا (كُلُّهَا)، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْهَدْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ (كـَ) مَا يُمْنَعُونَ مِنْ (زِيَارَتِهَا)، أَيْ: الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُ إحْدَاثٌ فِيهَا لِمَا لَمْ يَكُنْ، فَيَدْخُلُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَرْفُوعًا، «لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا» وَ(لَا) يُمْنَعُونَ (رَمَّ شُعْثَهَا)، أَيْ: الْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا اسْتِدَامَتَهَا، فَمَلَكُوا رَمَّ شُعْثَهَا.
(وَقَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (الْكَنَائِسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْعُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهَا، لِأَنَّا صَالَحْنَاهُمْ عَلَيْهِ، وَالْعَابِدُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْغَافِلِينَ) عَنْ الْعِبَادَةِ (أَعْظَمُ أَجْرًا)، وَفِي مَعْنَاهُ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْمَعَاصِي لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَائِهَا وَلِهَذَا قِيلَ: إنِّي اطَّلَعْت عَلَى الْبِقَاعِ وَجَدْتُهَا تَشْقَى كَمَا تَشْقَى الرِّجَالُ وَتَسْعَدُ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا غَمَّضَ عَيْنَيْهِ، وَيَقُولُ: لَا تَأْخُذُوا عَنِّي هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ (وَحَرُمَ بَيْعُهُمْ) وَإِجَارَتُهُمْ (مَا يَعْمَلُونَهُ كَنِيسَةً أَوْ تِمْثَالًا)، أَيْ: صَنَمًا (وَنَحْوَهُ)، كَاَلَّذِي يَعْمَلُونَهُ صَلِيبًا، لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
(وَ) يُمْنَعُونَ (مِنْ إظْهَارِ مُنْكَرٍ كَنِكَاحِ مَحَارِمَ، وَ) إظْهَارِ (عِيدٍ، وَ) إظْهَارِ (صَلِيبٍ وَ) إظْهَارِ (أَكْلٍ وَشُرْبٍ بـِ) نَهَارِ (رَمَضَانَ، وَ) إظْهَارِ (خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ)، لِأَنَّهُ يُؤْذِينَا، (فَإِنْ فَعَلُوا)، أَيْ: أَظْهَرُوا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا (أُتْلِفَ) إزَالَةً لِلْمُنْكَرِ.
(وَ) يُمْنَعُونَ مِنْ (رَفْعِ صَوْتٍ عَلَى مَيِّتٍ، وَ) مِنْ (قِرَاءَةِ قُرْآنٍ، وَ) مِنْ (ضَرْبِ نَاقُوسٍ وَجَهْرٍ بِكِتَابِهِمْ)، لِأَنَّ فِي شُرُوطِهِمْ لِابْنِ غُنْمٍ: وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا، وَلَا نَظْهَرَ عَلَيْهَا، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَنْ لَا نُخْرِجَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا نَخْرُجَ بَاعُوثًا وَلَا سَعَانِينَ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا، وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْجَنَائِزِ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا. وَقِيسَ عَلَى ذَلِكَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِرَمَضَان لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ. وَالْبَاعُوثُ: اسْتِسْقَاءُ النَّصَارَى. وَالسَّعَانِينُ: عِيدٌ لِلنَّصَارَى قَبْلَ الْفِصْحِ بِأُسْبُوعٍ، يَخْرُجُونَ فِيهِ بِصُلْبَانِهِمْ، قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ: (وَإِنْ صُولِحُوا)، أَيْ: الْكُفَّارُ، (فِي بِلَادِهِمْ)، أَيْ: مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ (عَلَى جِزْيَةٍ أَوْ خَرَاجٍ لَمْ يُمْنَعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ فِيمَا سَبَقَ، لِأَنَّهُمْ فِي بِلَادِهِمْ أَشْبَهُوا أَهْلَ الْحَرْبِ زَمَنَ الْهُدْنَةِ. (وَبَائِعُ خَمْرٍ) مِنْ الذِّمِّيِّينَ (لَنَا يُعَاقَبُ وَيُؤْخَذُ)، أَيْ: يَأْخُذُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ (مِنْهُ الثَّمَنَ) الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِبُطْلَانِ بَيْعِ الْخَمْرِ، وَتَحْرِيمِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ (يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ)، وَ(لَا) يُرَدُّ الثَّمَنُ (لِمُشْتَرٍ) مِنْهُمْ الْخَمْرَ، (فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ عِوَضٍ وَمُعَوَّضٍ)، وَمَنْ بَاعَ خَمْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَمْلِكْ ثَمَنَهُ، لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» فَيُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ (كـَ) مَا قِيلَ فِي (مَهْرِ بَغْيٍ وَحُلْوَانِ كَاهِنٍ، وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ عِوَضٌ عَنْ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ) قَدْ (اُسْتُوْفِيَتْ) قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: (أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ) الْإِمَامُ (أَحْمَدُ)، لِأَنَّهُ كَالْمَالِ الْمَجْهُولِ مَالِكُهُ، (وَ) هَذَا (قَالَهُ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا،
(وَقَالَ فِي بَيْعِ سِلَاحٍ فِي فِتْنَةٍ وَعِنَبٍ لِخَمْرٍ: يُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ) وَلَا يُرَدُّ لِمَالِكِهِ وَلَا لِلْبَائِعِ زَجْرًا لَهُمَا عَنْ ارْتِكَابِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، (كَذَا قَالَ) فِي مَوْضِعٍ مِنْ كَلَامِهِ. وَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ فِي بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْعِنَبِ لِلْخَمْرِ تَقْتَضِي بُطْلَانَ الْعَقْدِ، وَرَدَّ الثَّمَنِ الَّذِي قُبِضَ لِلْمُشْتَرِي وَالْمُثَمَّنِ لِلْبَائِعِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَإِنْ تَلِفَ فَيَبْقَى الثَّمَنُ بِيَدِ الْبَائِعِ، لِئَلَّا يَذْهَبَ عَلَيْهِ مَالُهُ مَجَّانًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ فَيُقْضَى لِلْبَائِعِ بِعِوَضِهِ، بِخِلَافِ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَمَهْرِ الْبَغْيِ، وَأُجْرَةِ الْمَلُوطِ بِهِ وَالنَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي نَفْسِهَا، كَبَائِعِ نَحْوِ الْمَيْتَةِ أَوْ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِثَمَنِهَا، لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ، أَفَادَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. (وَيُمْنَعُونَ)، أَيْ: الْكُفَّارُ، (دُخُولُ حَرَمِ مَكَّةَ) بِحُدُودِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَجِّ لَا الْمَسْجِدِ (فَقَطْ)، أَيْ: وَلَا حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ دُخُولُهُمْ حَرَمَ مَكَّةَ لِلْإِسْلَامِ، كَمَا فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وَالْمُرَادُ حَرَمُ مَكَّةَ {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، أَيْ: ضَرَرًا بِتَأْخِيرِ الْجَلْبِ وَيُؤَيِّدُهُ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، أَيْ: الْحَرَمِ، لِأَنَّهُ «أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ»، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ دُونَ الْحِجَازِ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَمَاكِنِ الْعِبَادَاتِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمُهَا، لِأَنَّهُ مَحَلُّ النُّسُكِ، فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، سَوَاءٌ أَذِنَ بِالدُّخُولِ مُسْلِمٌ أَوْ لَا، لِإِقَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، (وَلَوْ بَذَلُوا مَالًا) لِأَجْلِ الدُّخُولِ (أَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ)، أَيْ: الدُّخُولِ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ، وَلَمْ يُمَكَّنُوا، (وَمَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الدُّخُولِ مَلَكَ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْمَالِ) الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، فَإِنْ دَخَلُوا إلَى انْتِهَاءِ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِمْ جَمِيعُ الْعِوَضِ، لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ (حَتَّى غَيْرَ مُكَلَّفٍ) كَصَغِيرٍ وَمَجْنُونٍ، (وَ) حَتَّى (رَسُولُهُمْ)، أَيْ: الْكُفَّارُ، فَيُمْنَعُونَ دُخُولَ حَرَمِ مَكَّةَ، لِعُمُومِ الْآيَةِ. (وَيَخْرُجُ إمَامٌ إلَيْهِ)، أَيْ: الرَّسُولِ إنْ أَبَى أَدَاءَ الرِّسَالَةِ إلَيْهِ (وَيُعَزِّرُ مَنْ دَخَلَ) مِنْهُمْ حَرَمَ مَكَّةَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْمَنْعِ، وَ(لَا) يُعَزَّرُ إنْ دَخَلَ (جَهْلًا)، لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِالْجَهْلِ، (وَيُخْرَجُ) وَيُهَدَّدُ، قَالَهُ الْمُوَفَّقُ وَالشَّارِحُ وَابْنُ حَمْدَانَ وَغَيْرُهُمْ. (وَلَوْ) صَارَ الدَّاخِلُ مَرِيضًا أَوْ (مَيِّتًا) فَيُخْرَجُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ إخْرَاجُهُ حَيًّا، فَإِخْرَاجُ جِيفَتِهِ أَوْلَى وَإِنَّمَا جَازَ دَفْنُهُ بِالْحِجَازِ سِوَى حَرَمَ مَكَّةَ، لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ حَرَمِ مَكَّةَ سَهْلٌ مُمْكِنٌ لِقُرْبِ الْحِلِّ مِنْهُ، وَخُرُوجُهُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَيِّتٌ صَعْبٌ مُشِقٌّ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ. (وَيُنْبَشُ إنْ دُفِنَ بِهِ)، أَيْ: بِالْحَرَمِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ (مَا لَمْ يَبْلُ)، فَيُتْرَكُ. وَكَذَا لَوْ تَصَعَّبَ إخْرَاجُهُ لِنَتِنِهِ وَتَقَطُّعِهِ لِلْمَشَقَّةِ فِي إخْرَاجِهِ، ذَكَرَهُ فِي الشَّرْحِ.
(وَ) يُمْنَعُونَ (مِنْ إقَامَةٍ بِالْحِجَازِ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ وَالْيَنْبُعِ وَفَدَكَ)، بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ: قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ (وَقُرَاهَا)، وَسُمِّيَ حِجَازًا لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ- بِكَسْرِ التَّاءِ، وَهِيَ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا نَزَلَ عَنْ نَجْدٍ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ، وَمَكَّةَ مِنْ تِهَامَةَ- وَبَيْنَ نَجْدٍ، وَهُوَ: مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَ(قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (وَمِنْهُ)، أَيْ: الْحِجَازِ، (تَبُوكَ وَنَحْوَهَا وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى، وَهُوَ: عُقْبَةُ الصَّوَّانُ مِنْ الشَّامِ كَمَعَانٍ)، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ» رَوَاه أَحْمَدُ. وَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا» رَوَاه التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْمُرَادُ: الْحِجَازُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَخْرَجَ أَحَدًا مِنْ الْيَمَنِ وَتَيْمَاءَ.
قَالَ أَحْمَدُ: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا، يَعْنِي: أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ بِهِ الْمَدِينَةِ وَمَا وَالَاهَا، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا، (وَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ)، أَيْ: الْحِجَازِ (بِلَا إذْنِ إمَامٍ)، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَدْخُلُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ. (وَفِي الْمُسْتَوْعِبِ: وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَرِ (قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ بِهِ: الْحِجَازُ)، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ حُجِزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَحَدُّ الْجَزِيرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ) الْأَصْمَعِيُّ وَ(أَبُو عُبَيْدٍ) الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: (مِنْ عَدَنَ إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ) وَالرِّيفُ: أَرْضٌ فِيهَا زَرْعٌ وَخِصْبٌ، وَالْجَمْعُ: أَرْيَافٌ (طُولًا، وَمِنْ تِهَامَةَ إلَى مَا وَرَاءَهَا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ) عَرْضًا قَالَ الْخَلِيلُ: إنَّمَا قِيلَ لَهَا جَزِيرَةٌ، لِأَنَّ بَحْرَ الْحَبَشَةِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَالْفُرَاتِ أَحَاطَتْ بِهَا وَنُسِبَتْ إلَى الْعَرَبِ، لِأَنَّهَا أَرْضُهَا وَمَسْكَنُهَا وَمَعْدِنُهَا، (فَإِنْ دَخَلُوا الْحِجَازَ لِتِجَارَةٍ) أَوْ غَيْرِهَا (لَمْ يُقِيمُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ يَنْتَقِلُوا) لِأَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لِمَنْ دَخَلَ تَاجِرًا فِي إقَامَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَدَلَّ عَلَى الْمَنْعِ فِي الزَّائِدِ وَلَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَكَذَا فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ، وَمَوْضِعٍ رَابِعٍ، وَهَكَذَا، (فَإِنْ أَقَامُوا بِمَوْضِعٍ) وَاحِدٍ مِنْ الْحِجَازِ (أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ عُزِّرُوا) إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُذْرٌ فِي الْإِقَامَةِ (وَيُوَكَّلُونَ فِي) دَيْنٍ (مُؤَجَّلٍ) مَنْ يَقْبِضْهُ لَهُمْ، (وَيُجْبَرُ مَنْ لَهُمْ عَلَيْهِ) دَيْنٌ (حَالٌّ عَلَى وَفَائِهِ)، لِوُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، (فَإِنْ تَعَذَّرَ) وَفَاؤُهُ لِنَحْوِ مَطْلٍ أَوْ تَغَيُّبٍ، (جَازَتْ إقَامَتُهُمْ لَهُ) إلَى اسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَفِي إخْرَاجِهِمْ قَبْلَهُ ذَهَابٌ لِمَا لَهُمْ إنْ لَمْ يُمْكِنْ تَوْكِيلٌ. (وَمَنْ مَرِضَ) مِنْ كُفَّارٍ بِالْحِجَازِ (لَمْ يَخْرُجْ) مِنْهُ (حَتَّى يَبْرَأَ)، لِمَشَقَّةِ الِانْتِقَالِ عَلَى الْمَرِيضِ، فَتَجُوزُ إقَامَتُهُ، (وَ) مَنْ يُمَرِّضُهُ. وَ(إنْ مَاتَ) كَافِرٌ بِالْحِجَازِ (دُفِنَ بِهِ)، لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ إقَامَتِهِ لِلْمَرَضِ. (وَلَيْسَ لِكَافِرٍ دُخُولُ مَسْجِدٍ) مِنْ مَسَاجِدِ الْحِلِّ (وَلَوْ أَذِنَ) لَهُ فِيهِ (مُسْلِمٌ) لِأَنَّ عَلِيًّا بَصَرَ بِمَجُوسِيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ وَضَرَبَهُ وَأَخْرَجَهُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَلِأَنَّ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ يَمْنَعُ، فَالشِّرْكُ أَوْلَى. (وَعِنْدَ الْقَاضِي) أَبُو يَعْلَى: (يَجُوزُ) لِكَافِرٍ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ مُسْلِمٍ (إنْ رُجِيَ) مِنْهُ (إسْلَامٌ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ» وَأُجِيبَ عَنْهُ وَعَنْ نَظَائِرِهِ بِأَنَّهُ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَيْهِ، وَبِأَنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْمِلُونَ إلَيْهِ الرَّسَائِلَ وَالْأَجْوِبَةَ، وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ الدَّعْوَةَ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ مِنْ الْكُفَّارِ. (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ)، أَيْ: الْكَافِرِ (لِبِنَائِهِ)، أَيْ: الْمَسْجِدِ (وَالذِّمِّيِّ) التَّاجِرِ (وَلَوْ أُنْثَى صَغِيرَةً) أَوْ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى وَنَحْوَهُ، (أَوْ تَغْلِيبًا إنْ اتَّجَرَ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ) وَلَوْ إلَى غَيْرِ الْحِجَازِ (بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَصَاعِدًا)، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا (ثُمَّ عَادَ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ الْوَاجِبُ فِيهَا)، أَيْ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي (سَافَرَ إلَيْهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُشْرِ مِمَّا مَعَهُ)، لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ عَنْ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ «أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى الْكُوفَةِ، فَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَا فِي كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا» وَكَانَ ذَلِكَ بِالْعِرَاقِ، وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِمَّا مَعَهُمْ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ نَصًّا، وَلَا فِيمَا اتَّجَرُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ. (وَيَمْنَعُهُ)، أَيْ: وُجُوبَ نِصْفِ الْعُشْرِ (دَيْنٌ كَزَكَاةٍ)، فَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِمَّا يُقَابِلُهُ (إنْ ثَبَتَ) الدَّيْنُ (بِبَيِّنَةٍ)، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُهُ. (وَيُصَدَّقُ) كَافِرٌ تَاجِرٌ (أَنَّ جَارِيَةً مَعَهُ أَهْلُهُ)، أَيْ: زَوْجَتُهُ، (أَوْ) أَنَّهَا (بِنْتُهُ، وَنَحْوَهُمَا) كَأُخْتِهِ لِتَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ مِلْكِهِ لَهَا، فَلَا تُعْشَرُ (وَيُؤْخَذُ مِمَّا مَعَ حَرْبِيٍّ اتَّجَرَ إلَيْنَا الْعُشْرُ) سَوَاءٌ عَشَرُوا أَمْوَالَنَا أَوْ لَا، لِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكَرْ، فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ. و(لَا) يُؤْخَذُ عُشْرٌ وَلَا نِصْفُهُ (مِنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ مَعَهُمَا)، أَيْ: الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ، لِأَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ فِيهِ كَالْعِشْرِينِ فِي زَكَاةِ مُسْلِمٍ. (وَلَا) يُؤْخَذُ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ (أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ كُلَّ عَامٍ)، لِمَا رَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ شَيْخًا نَصْرَانِيًّا جَاءَ إلَى عُمَرَ فَقَالَ: إنَّ عَامِلَك عَشَرَنِي فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، قَالَ: وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفُ. ثُمَّ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ أَنْ لَا يَعْشُرَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً» وَكَالْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ. وَمَتَى أَخَذَ مِنْهُمْ كَتَبَ لَهُمْ بَرَاءَةً، لِتَكُونَ حُجَّةً مَعَهُمْ، فَلَا يُعْشَرُونَ ثَانِيًا، لَكِنْ إنْ كَانَ مَعَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ الْأَوَّلِ أُخِذَ مِنْ الزَّائِدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْشَرْ. (وَلَا يُعْشَرُ ثَمَنُ خَمْرٍ، وَ) لَا ثَمَنُ (خِنْزِيرٍ) نَصًّا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ حَمَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ جِزْيَةً وَخَرَاجًا، وَاسْتَدَلَّ لَهُ، (وَالْمُرَادُ: مَا لَمْ يَقْبِضُوا ثَمَنَهُمَا) مِمَّنْ يَعْتَقِدُ حِلَّهُمَا، فَيُعْشَرُ كَبَاقِي أَمْوَالِهِمْ، فِي رِوَايَةٍ جَزَمَ بِهَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْغُنْيَةِ وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَيْنِ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ طَعَامُ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَهُ فِي الْفُرُوعِ (وَيَحِلُّ لَهُمْ ثَمَنُ) الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (لَوْ أَسْلَمُوا)، وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ، لِحَدِيثِ: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ».

.(فَرْعٌ): [تَحْريمُ تَعْشِيرِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ]:

(يَحْرُمُ تَعْشِيرُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُلَفُ الَّتِي ضَرَبَهَا الْمُلُوكُ عَلَى النَّاسِ) بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ (إجْمَاعًا)، قَالَ الْقَاضِي: لَا يُسَوَّغُ فِيهَا اجْتِهَادٌ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إنَّ صَاحِبَ الْمَكْسِ لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ يُؤْخَذُ كَمَا هُوَ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» وَحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ» رَوَاه أَحْمَدُ. وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنِ الْقَارِيّ أَنْ ارْكَبْ إلَى الْبَيْتِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بَيْتُ الْمَكْسِ فَاهْدِمْهُ، ثُمَّ احْمِلْهُ إلَى الْبَحْرِ فَانْسِفْهُ فِيهِ نَسْفًا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ مِصْرَ وَالرَّمْلَةِ. وَحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» رَوَاه أَبُو دَاوُد. إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، (قَالَ الشَّيْخُ) تَقِيُّ الدِّينِ: (لِوَلِيٍّ) فِي نِكَاحٍ (يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ)، أَيْ: الْعُشْرَ، (مَنَعَ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ التَّزْوِيجِ مِمَّنْ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْهُ)، أَيْ: الْعُشْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّهُ مَكْسٌ.

.(فَصْلٌ): [في النَّصْرَانِيِّ يِتَهَوَّدُ أو الْيَهُودِيِّ يَتَنَصَّرُ]:

(وَإِنْ تَهَوَّدَ نَصْرَانِيٌّ) لَمْ يُقَرَّ (أَوْ تَنَصَّرَ يَهُودِيٌّ لَمْ يُقَرَّ)، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ بَاطِلٍ قَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهِ فَلَمْ يُقَرَّ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ الدِّينُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أُقِرَّ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَيُقَرُّ عَلَيْهِ ثَانِيًا، (فَإِنْ أَبَى مَا كَانَ عَلَيْهِ) مِنْ الدِّينِ، (وَ) أَبَى (الْإِسْلَامَ هُدِّدَ وَحُبِسَ وَضُرِبَ) حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَرْجِعَ إلَى دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، (وَلَمْ يُقْتَلْ)، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَلَا يُقْتَلُ لِلشُّبْهَةِ. (وَإِنْ اشْتَرَى الْيَهُودُ نَصْرَانِيًّا فَهَوَّدُوهُ)، أَيْ: جَعَلُوهُ يَهُودِيًّا (عُزِّرُوا) لِفِعْلِهِمْ مُحَرَّمًا، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا، لِعَدَمِ إتْيَانِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَفْظًا وَحُكْمًا. (وَإِنْ انْتَقَلَا)، أَيْ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، (أَوْ) انْتَقَلَ (مَجُوسِيٌّ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ)، لَمْ يُقَرَّ لِأَنَّهُ أَدْنَى مِنْ دِينِهِ، أَشْبَهَ الْمُسْلِمَ إذَا ارْتَدَّ، و(لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ) نَصًّا، لِأَنَّ غَيْرَ الْإِسْلَامِ أَدْيَانٌ بَاطِلَةٌ قَدْ أُقِرَّ بِبُطْلَانِهَا، فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهَا كَالْمُرْتَدِّ، (فَإِنْ أَبَاهُ)، أَيْ: الْإِسْلَامَ (قُتِلَ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثَةً)، أَيْ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَالْمُرْتَدِّ (وَإِنْ انْتَقَلَ غَيْرُ كِتَابِيٍّ) وَلَوْ مَجُوسِيًّا (إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ) بِأَنْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ أُقِرَّ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى دِينٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَأَعْلَى مِنْ دِينِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَأُقِرَّ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ أَصْلُ دِينِهِ (أَوْ تَمَجَّسَ وَثَنِيٌّ)، أَيْ: أَحَدُ عُبَّادِ الْأَوْثَانِ، (أُقِرَّ) عَلَى الْمَجُوسِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ. (وَإِنْ تَزَنْدَقَ ذِمِّيٌّ) بِأَنْ لَمْ يَتَّخِذْ دِينًا مُعَيَّنًا (لَمْ يُقْتَلْ لِأَجْلِ جِزْيَةٍ نَصًّا)، نَقَلَهُ ابْنُ هَانِئٍ. (وَإِنْ كُذَّبَ نَصْرَانِيٌّ بِمُوسَى، خَرَجَ مِنْ دِينِهِ)، أَيْ: النَّصْرَانِيَّةِ لِتَكْذِيبِهِ لِنَبِيِّهِ عِيسَى فِي قَوْلِهِ: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ} (وَلَمْ يُقَرَّ عَلَى غَيْرِ إسْلَامٍ)، فَإِنْ أَبَاهُ (فـَ) إنَّهُ (يُقْتَلُ بَعْدَ اسْتِتَابَةِ) ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْمُرْتَدِّ، (لَا إنْ كَذَّبَ يَهُودِيٌّ بِعِيسَى)، فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.